إيران وإسرائيل- بين التهديد والرد المنتظر، وأمنيات العرب المتباينة.

يشد العالم أنظاره، بترقب بالغ، نحو مصير التهديد الإيراني الصارخ بضرب إسرائيل، كثأر لعملية الاغتيال التي طالت إسماعيل هنية، بينما كان ضيفًا رسميًا في طهران. هل ستنفذ إيران وعيدها وتترجمه إلى واقع ملموس، أم ستكتفي بالجعجعة الكلامية، كما اعتاد جيرانها العرب على مدى عقود طوال، مترقبين اللحظة السانحة والتوازن الاستراتيجي المنشود؟
وبغض النظر عن المنحى الذي ستسلكه الأحداث، فالتكهن الجازم قد يقودنا إلى استنتاجات غير صائبة، يلوح في الأفق أمنيتان أو رهانان يتجاذبان العالم العربي، وربما الإسلامي برمته، حيث يأمل أصحابهما بانتصار رؤاهم. فهناك فئة تتضرع قائلة بأن إيران لن تقدم على الرد هذه المرة، بينما تجزم فئة أخرى بأن الرد قادم لا محالة.
أما أصحاب الأمنية الأولى، فيبتهلون كي تنكص إيران على أعقابها وتتراجع عن وعيدها، طمعًا في تحقيق غايتين: أولاهما، أن يصدحوا قائلين: "ألم تروا صدق ما كنا ننادي به على مر العصور؟ إيران وإسرائيل تعملان يدًا بيد لخنق العالم العربي وإجهاض أي مسعى للنهوض فيه". وعلى هذا الزعم، يرتكز الهدف الثاني، وهو أن يوجهوا نداءً مدويًا إلى كافة أرجاء الوطن العربي، من غنيه إلى فقيره، ومن باديه الشاسعة إلى حواضره العامرة، ومن شرقه إلى غربه: "فليتحمل من قصدوا أعتاب طهران تبعات أفعالهم، فهم من جنوا على أنفسهم، ونحن بالتالي أبرياء من أي واجب تمليه علينا الاعتبارات الدينية والتاريخية وروابط العقيدة والقربى. إسماعيل هنية (رحمه الله) قصد إيران فلقي مصيره المحتوم!"
كما يبتغون تضليل الشعوب التي تدرك، في غالبيتها العظمى، أن أبواب العواصم العربية أوصدت في وجوه من قصدوا إيران، وأنهم لاحقوا وزج بهم في غياهب السجون بتهم ملفقة، وما زال بعضهم يقبع خلف القضبان.
بالمقابل، تتشعب مشارب أصحاب القناعة الراسخة بأن إيران سترد حتمًا، فمنهم من يستقي من ينابيع مذهبية، ومنهم من يرفع أكف الضراعة متمنيًا الرد، إيمانًا منه بالمقاومة، مهما كانت هويتها، كمنهج وسبيل للخلاص والتحرر، وكلاهما يساند هذا المسار المقاوم، وإن تباينت الغايات النهائية، ولا حرج في ذلك.
بيد أن وراء مسوغات أصحاب الأمنية الأولى أهدافًا دفينة تخفيها نفوسهم. فهم يرون أن النكوص الإيراني الذي يشتهونه يمنحهم ذريعة مقنعة للتخلي عن أي مسؤولية دينية أو أخلاقية أو إنسانية تجاه آلام أهل غزة وأهوال الإبادة التي ترتكبها إسرائيل، ومن يدعمونها في فلسطين عامة، وكأن إيران أقرب إليهم لفلسطين دمًا وعرقًا وجغرافيا وتاريخًا. كما يتشبثون بالتاريخ، فيستحضرون منه قصصًا وحكايات، أغلبها غير موثق، ليؤكدوا لنا أن قتلة الحسين بن علي، رضي الله عنهما، هم أنفسهم من استضافوا "أبا العبد" فاغتيل على أرضهم.
كما يتمنون ألا ترد إيران، ليكونوا معها في صفوف المهزومين في الحرب والفاشلين في السلام، والخانعين للذل والهوان، بعد أن تهاوت كرامتهم وعزة نفوسهم، وهم يكشفون ظهورهم خانعين، منذ قرنين من الزمان، لسياط المستعمر الأبيض، ويقدمون صاغرين لربيبته إسرائيل، منذ 76 عامًا، فروض الطاعة والخنوع والاستجداء.
فإيران المحاصرة من الغرب، وهو ما ينكره هؤلاء، استطاعت أن تتبوأ مكانة القوة الإقليمية القادرة على تعديل الموازين وقلب الحسابات، وربما فرض قواعد جديدة بالقوة الناعمة والخشنة على حد سواء. ولا نطلق هذا الكلام إطراء لإيران أو مديحًا لها، ولا تعبيرًا عن توافق مع سياساتها أو تحيزاتها المذهبية، وما ترتب عليها من وقائع وتطورات ودماء في أقطار عربية عديدة.
بل إن بعضهم يتوقون ألا ترد إيران حتى لا يتشتت جهد إسرائيل وجيشها، فلا يتمكن من القضاء على حماس والمقاومة، كما يشتهون ويريدون. وهم كذلك يرغبون في تجنب تصعيد الموقف إلى حرب إقليمية، قد تفضي إلى واقع جديد يفرض معادلات تقلب كل الرؤى والحسابات التي وعدت بها الشعوب.
لكن هؤلاء يتناسون، وهم يدفنون رؤوسهم في الرمال، أن نكوص إيران الذي يشتهونه أشد خطرًا على مستقبل المنطقة بأسرها من الرد، لأنه يعني انتصارًا لإسرائيل، ولو في المدى القريب. فبعد سلسلة الاغتيالات التي طالت العلماء والقادة العسكريين داخل الأراضي الإيرانية وخارجها، قد تستشعر إسرائيل أن يدها الطويلة قادرة على النيل من مستويات إيرانية وعربية أعلى وأعلى، دون خشية أو وجل من العواقب.
كما يغفلون عن حقيقة أن إسرائيل المنتصرة الجامحة لا ترحم فرائسها، سواء أولئك الذين يتلوون تحت أنيابها من أهل فلسطين، الذين يقاومون منذ قرن أو يزيد، أو أولئك القابعين في غابتها الإقليمية، وقد خارت قواهم، بانتظار دورهم ليؤكلوا دون مقاومة، ولو بأضعف الإيمان. وإن كانوا يعتقدون أن أميركا ستحمي الضعفاء، فعليهم مراجعة التاريخ، قديمه وحديثه، فأميركا، شأنها شأن كل الإمبراطوريات المتجبرة بقوتها الغاشمة، لا ترحم الضعفاء، ومن يبتغي منها أن تبقيه على قيد الحياة، ولا أقول ترحمه، عليه أن يستكين ويستسلم حتى يبلغ منزلة من يعيش في الوحل، فهل يحيى في الوحل إلا أحط المخلوقات؟
هؤلاء يتجاهلون أن الغرب هو من أوجد إسرائيل لتكون قاعدة دائمة تؤمن مصالحه وتفرض سيطرته على منطقة الشرق الأوسط برمتها، انطلاقًا من إرثه المسيحي الإنجيلي، ومن فلسفته العلمانية التي ترى العالم مجرد أراض يجب أن تظل، بمن عليها من بشر ومخلوقات، وما تكتنزه من موارد، مسخرة لخدمته، حتى يستمر رفاهه المادي الاستهلاكي بلا حدود. ومن يحاول من أصحاب تلك الأراضي أن يغير أو يثور، سيواجه بالعصا الغليظة حتى يخضع من جديد، إلا من كانت كرامته واستقلاله أغلى من كل الدنيا، ومن لا يدرك هذا فليسأل أفغانستان، مقبرة الإمبراطوريات، وفيتنام التي هزمت فرنسا وأميركا، والجزائر التي قدمت ملايين الشهداء وهزمت فرنسا.
لكن حين يتساوى الذل مع الكرامة طلبًا لحياة، ولو تحت السياط، لا يهم من يكون السيد الآمر.
وهؤلاء الذين يتمنون ألا ترد إيران، يتناولون احتمالية لجوء إسرائيل إلى استخدام السلاح النووي ردًا على أي هجوم إيراني. ولو أحسنوا حساباتهم ووزنوا معادلاتهم، لأدركوا أن لجوء إسرائيل إلى أسلحة الدمار الشامل ضد دولة كبيرة في المنطقة سيجر الويلات على المنطقة بأسرها، من البحر الأبيض المتوسط إلى بحر العرب، وأنها لن تلجأ إلى التهديد بذلك إلا حين تشعر بأن وجودها أصبح على المحك.
وحين تبلغ الأمور هذا المنحى، سيحشد الغرب، كما يفعل اليوم، قواته وخيلاءه وأساطيله وجنوده. ولكن هل سيسمح لإسرائيل باستخدام السلاح النووي؟ أم أن إسرائيل لا تأبه بمن أقاموها وتفعل ما يحلو لها؟ فلماذا، إذن، لم يستوعب تلك المخاطر أولئك الذين يحذرون من مخاطر الخيار النووي الإسرائيلي في النتائج النهائية، فيعدوا العدة المكافئة التي تجعل الغرب يفكر ألف مرة قبل أن يؤول الوضع إلى هذا الخيار الكارثي.
كما يحذرون من مخاطر الخيار النووي الإيراني، ويتوعدون بخيار مماثل إن حازته إيران. فلو أننا نحن العرب صنعناه ردًا على وجوده لدى إسرائيل، منذ أن حازته بمعونة غربية في العقد الأول من نشأتها غير المديدة بإذن الله، لما كنا الآن أمام مأزق تاريخي لا يجد بعضنا مخرجًا منه إلا المزيد من الاستسلام والخضوع.
إن اللجوء إلى السلاح النووي ليس خيارًا يسيرًا لإسرائيل نفسها ولا للغرب الذي يبقيها على قيد الحياة، أيها السادة. ففي اليوم الذي استخدمته أميركا لإجبار اليابان على الاستسلام في الحرب العالمية الثانية، كان حكرًا بيد أميركا وحدها.
أما اليوم، فقد باتت دول عديدة تمتلكه، وأصبحت تكنولوجيا تصنيعه وتصنيع أدوات إطلاقه معروفة للكثير من الدول، ومن بينها إيران بالمناسبة. فإن استخدمته إسرائيل، فسينطلق المارد من قمقمه، وستتسابق الدول على تصنيعه، فتنهار كل اتفاقيات منع انتشاره، ويختل، بل ينهار تمامًا احتكار معادلتي القوة والمعرفة اللتين يحرص الغرب على ألا تخرجا من قبضته خروجًا تامًا.
وهل توافق أميركا أيضًا على أن يصبح سعر برميل النفط مئات الدولارات، أو أن تتوقف إمداداته من الشرق الأوسط، فينهار اقتصاد العالم؟ تلك هي الشروط التي، إن آلت إليها الأوضاع، فستﻨﺪﻟﻊ معها شرارة الحرب العالمية الثالثة، وفيها، في عصر السلاح النووي، لا غالب ولا مغلوب، بل الكل مغلوب.
ليست القضية المصيرية بالنسبة لنا نحن العرب أن ترد إيران أو لا ترد، بل الضرورة الملحة لإقدامنا نحن، كما تفعل إيران وغيرها، على الأخذ بأسباب البقاء في العصر النووي، وما يوفره لمن يمتلكون زمامه من توازن رعب، وما يفتحه امتلاك أسرار الذرة من أبواب المعرفة، التي لن يتهيأ للأمة من دونها مكانة بين الأمم.
لقد وقفنا شعوبًا وحكومات نصغي خلسة ونذرف الدموع بصدق أو تزييف على آلام أهل فلسطين ودماء أطفال غزة وصراخ حرائرها، فمتى سنجعل العالم يترقب ردنا نحن على ما نلاقيه من إهانات؟ أم أن خير وصف لحالنا هو قول الشاعر:
لقد أسمعت لو ناديت حيًا.. ولكن لا حياة لمن تنادي.